القائمة الرئيسية

الصفحات

قصة قصيرة

قطن وشاش
قصة قصيرة
د.عبدالله البلتاجى

كانت دقات الساعة تعلن الثالثة بعد الظهر , عندما تعالى نداء الحق , الله أكبر , الله أكبر , يتردد فى جنبات المدينة الصغيرة . أسرعت فى الإنتهاء من طعام الغذاء , للوضوء , واللحاق بصلاة العصر جماعة فى المسجد الكبير . عند خروجى من باب المسجد وجدته واقفاً فى الإنتظار , تعلو وجهه مسحة حزن غير مألوفة .
قلت : سعيد صابر مظلوم, مكفهراً ! .
قال: أشعر بضيق فى التنفس , واكتئاب, كأنه آخر الدهر .
قلت : لا , أنت محتاج كوب الشاى المعتاد , فى مكانا التاريخى .
ودلفنا نقطع الأزقة والشوارع الضيقة , المليئة بالحفر , وبرك الماء , المكتظة باجسام المارة , العائدون من أعمالهم , محملين بالطعام والشراب , والهموم أيضا , حتى وصلنا إلى المقهى المطلة على ميدان المحطة , وكذلك على النصب التذكارى لشهداء حرب أكتوبر المجيدة , حيث نلتقى دائما نجتر الذكريات , ونواجه مشاكل الواقع المرير . وما أن جلسنا فى مكاننا , ننظر إلى الميدان , وقد خلا من الباعة الجائلين - الذين فى العادة يفترشون الأرض والأرصفة لبيع بضائعهم البسيطة – بعد حملة الإزالة التى عملت بنشاط خلال اليومين الماضيين , حتى بادرنى قائلا : الواحد غير قادر على حل الأزمات المالية المتلاحقة ! .
قلت : بمعنى .
قال :اليوم الثانى عشر من شهر أكتوبرالمجيد , شهر الكرامات , والتضحيات , والذكريات الشامخة , ومع ذلك لم يبقى من راتبى الشهرى شئ !!!.
قلت : يا عم سعيد لا تعقد الأمور على هذا النحو .
قال : أنا لا أعرف كيف أكون سعيدا , وأنا صابرا , ومظلوما !!! , مع خدمة ثلاثين عاما , منذ حصولى على الدبلوم عام 1966 , وما زال راتبى حتى الآن مائتى جنيه !!!, فقط تكفى الإيجار , والعيش , والتموين ,والفول , والطعمية , ماذا أفعل فى مصاريف الجامعة لمرقس , وفليمون أولادى الكبار فقط ؟ , وكذلك إستخراج إشتراك السكك الحديدية لهما لكى يذهبا إلى الجامعة , مع بدئ العام الدراسى الجديد ؟
قلت : أشكر ربنا أن أولادك متفوقون , ومجتهدون , ولا يحتاجون دروسا خصوصية . أنا عندى الولدين الكبيرين فى الثانوية العامة معا , محتاجون خمسمائة جنيه شهريا للدروس الخصوصية فقط . إذا فرضنا أن أولادك يأخذون دروسا خصوصية بمثل هذا المبلغ فقط , يبقى مرتبك سبعمائة جنيه , وليس مائتى جنيه فقط .
قال : الحمد لله , ربنا يوفقهما , هما الأمل الذى أعيش من أجله .
قلت : غدا يتخرج أولادك من الجامعة , ويبقى مرقس الملحق التجارى فى لندن , وفليمون الملحق الزراعى فى واشنطون , مثل أخوالهما , أما الصغيرة هناء , تبقى أستاذة جامعية , وتبقى ياعم سعيد , سعيد .
قال : يسمع منك ربنا .
قلت : فاكر كم مرة جلسنا هنا نناقش مشاكلنا منذ أن أنهينا الخدمة العسكرية بعد نصر أكتوبر , بعد خدمة ست سنوات منذ هزيمة يونيو 1967 . كم من زملائنا استشهدوا فى الحرب , وأسمائهم مدونة على هذا النصب الواقف أمامنا الآن ؟ كم من المشاكل اعترضت حياتنا , ومرت , وأصبحت ذكرى .
ارتشف الرشفة الآخيرة من كوب الشاى الموضوع أمامه على المنضدة , وقام وهو يقول : لا أعرف لماذا صدرى منقبض هكذا !!!.
قلت : إن شاء الله خير .
قال : لقد أصبحت الساعة الخامسة , سوف أعود إلى البيت لأساعد الأولاد .
قلت : انتظر , أشرب أنا أيضا الشاى , ويكون قطار الخامسة قد مر , حتى تعبر المزلقان بعد الزحام .
قال : لا أعرف لماذا لا تعمل هيئة السكك الحديدية نفقا للمشاة أسفل المزلقان , حتى لا يتعرض المارة لخطر الموت تحت عجلات القطارات السريعة عند عبورهم المزلقان ! .
وانصرف فى طريقه إلى محطة السكك الحديدية مارا بنصب الشهداء , فوقف ينظر إليه كأنه يراه لآخر مرة , ثم مضى وسط الزحام يخترق المارة , وما أن إختفى وسط الحشود المنتظرة أمام مزلقان المحطة , حتى سُمع دوى إنفجار مروع جعلنى فى حالة ذهول , حتى رأيت قطار الخامسة , يحطم الصدام , ويكسر المزلقان , ويخرج عن القضبان , محطما كل شئ فى طريقة , المحلات , والمارة على السواء , ويخترق الميدان , يمزق الأجساد , ويحصد الأرواح , حتى وصل إلى نصب الشهداء , فلا يوقفه شئ , سوى النصب , الواقف شامخا وسط الميدان . فى التو واللحظة تعالت صرخات الضحايا تحت عجلات قطار الموت , أما القاطرة المجنونة فعندما اصطدمت بقاعدة النصب , إرتفعت إلى السماء محتضنة النصب فى شموخ , وركوع .
وبعد أن أفاق الجميع من هول صدمة الكارثة المروعة , ويكتشف الأهالى أبعاد المأساة , أخذ الجميع يجرون فى إتجاه موقع الحادث الأليم , لنجدة من دهمهم القطار , ويبحثون عن شئ يضمدون به الجراح , فلا يجدون قطنا , ولا شاشا , فينتزع الأهالى ملابسهم يربطون بها الجروح , ويعصبون بها الرؤوس , حى إمتلئ الميدان عن آخره بأجساد الضحايا , والمواطنون النبلاء الذين جاءوا من كل فج عميق , وأصبحت ملابس الرجال , وأغطية رؤوس النساء تتطاير فى الهواء فى إتجاه الضحايا تحت عجلات القطار , وأخذنا نرفع الأشلاء إلى عربات الإسعاف - التى كانت تشق طريقها بصعوبة بالغة وسط الجموع الحاشدة – فإذا بين يدى بعض جثة ممزقة , فسقط من جيب البنطلون الممزق بطاقة عائلية , فإذا به : سعيد صابر مظلوم ! .
هل اعجبك الموضوع :
author-img
This is Prof. Dr. Abdallah M. Albeltagy I love all humanbeigs and wish to them all kind and good wishes

تعليقات